منذ 30 آذار / مارس 2018 وحتى نهاية عام 2019، اندلعت مظاهرات حاشدة كل يوم جمعة، وأحيانًا في منتصف الأسبوع أيضًا، في قطاع غزة بالقرب من الجدار الحدودي مع إسرائيل.  ردًا على المظاهرات، تبنى الجيش الإسرائيلي سياسة إطلاق النار التي تسمح للجنود باستخدام قوة مميتة، بما في ذلك الرّصاص الحي، ضد المتظاهرين المصنفين من قبلهم على أنهم “محرضون رئيسيون” أو “مثيرو شغب رئيسيون”. استخدام الرصاص الحي مُتاح في شروط معينة، حتى لو لم يشكل “المحرضون” أو “المخلون بالنظام” خطرًا فعليًا وفوريًا على حياة الإنسان – وذلك حسب رد الجيش على التماس تقدمت به منظمات حقوقية، بما في ذلك ييش دين، الذي طعن في شرعية إطلاق النار على مظاهرات الجدار الحدودي في القطاع. وعبرت هذه السياسة عن استخفاف غير مسبوق بحياة الإنسان من جانب إسرائيل، وأسفرت عن مقتل وجرح مئات المتظاهرين. إن حجم الخسائر هذا غير مسبوق حتى بالنسبة للمعايير المعروفة في سياق الاحتلال الإسرائيلي والمواجهات العنيفة التي يثيرها في المناطق المحتلة.

وبينما تُفحص الشكاوى والبلاغات التي يبلّغ عنها للجيش بخصوص أي أذى، إصابة، او مقتل فلسطينيين بشكل روتيني من قبل النيابة العسكرية، والتي تقرر ما إذا كان سيتم فتح تحقيق جنائي في قضيتهم، يتم فحص شكاوى مماثلة متعلقة بالمظاهرات في قطاع غزة أولاً بواسطة آلية فحص الحقائق التي يطلق عليها الجيش اسم ” جهاز قيادة الأركان العامّة لاستقصاء الأحداث الاستثنائيّة”. تحلل ورقة الموقف “يطلقون النّار ويتستّرون” آلية عمل هذا الجهاز، استنادًا للمعطيات التي قدّمها الجيش لييش دين.

تدلّ معظم نتائج ورقة الموقف عمّا يلي:

  • جهاز استقصاء الأحداث يعمل ببطء: أفاد جهاز استقصاء الأحداث بوقوع 231 حادثة قُتل فيها متظاهرون فلسطينيون. حتى آذار / مارس 2020، %80 من هذه الحوادث كانت قيد التحقيق من قبل الجهاز أو من قبل نظام تطبيق القانون العسكري.تكتسب هذه الحقيقة كامل أهميتها عندما نأخذ بعين الإعتبار أن استكمال عمل جهاز استقصاء الحقائق ليس نهاية المسار من حيث مراحل التحقيق والتطبيق، ولكنه المرحلة الأولى والأولية فقط. يولّد بطء عمل جهاز استقصاء الأحداث الواقع التالي: حتى اذا تم فتح تحقيق إضافي من أجل التحقيق في شبهات مقتل متظاهرين، يصعب التحقق مما إذا كانت التحقيقات جدّية، شاملة وفعالة بعد مرور مدّة طويلة على وقوع الحدث.
  • سياسة عدم التحقيق في حالات إصابة المتظاهرين: تدلّ البيانات التي قدمت لييش دين من قبل الجيش على أن جهاز استقصاء الأحداث تناول فقط التحقيقات في الحوادث التي قُتل فيها متظاهرون فلسطينيون، ولم تتناول أي من حالات آلاف الجرحى – الذين أصيب العديد منهم بجروح خطيرة، منهم من أصيب بشلل لمدى الحياة، ومنهم من فقد أعضاءه. هذه الحقيقة بحد حد ذاتها مقلقة وتثير التساؤلات حول مصير الشكاوى عن إصابات المتظاهرين، كون البيانات العامة التي تم تسليمها لييش دين حول تحقيقات مع جنود مشتبه بإيذائهم  لفلسطينيين لا تشمل التحقيقات في إصابات وقعت خلال «تظاهرات الجدار الحدودي».
  • لائحة اتهام واحدة فقط وحكم مخفف بعد مقتل أحد المتظاهرين: في قضية واحدة فقط تقرر تقديم لائحة اتهام ضد جندي على إثر حادثة إطلاق النار ومقتل عثمان رامي جواد حلس، 14 عامًا من مدينة غزة. وبحسب لائحة الاتهام، عندما اقترب حلس من الجدار وبدأ بتسلقه، أطلق المشتبه النار عليه، دون الحصول على موافقة من قائده، منتهكًا بذلك تعليمات إطلاق النار والتعليمات المعطاة له. أعلن عن وفاة حلس على الفور. تم اتهام الجندي بتهم تأديبية فقط في إطار صفقة قضائية، ولم يرد في لائحة الاتهام أي ذكر لارتكاب جريمة تتعلق بفعل القتل نفسه. في إطار الصفقة القضائية، أدين الجندي بالخروج عن الأوامر مما تسبب بتعريض حياة انسان أو صحته للخطر، وتلخصت عقوبته ب 30 يومًا من الخدمة العسكرية، السجن مع وقف التنفيذ، وإنزاله رتبته إلى  عسكري.

لائحة الاتهام الوحيدة التي قُدمت في أعقاب مقتل فتى يبلغ من العمر 14 عامًا والطريقة المتساهلة التي انتهت بها الإجراءات القانونية في قضيته، على خلفية البيانات العامة المتعلقة بعمل جهاز استقصاء الأحداث ونظام تطبيق القانون، تكشف سلسلة  من الإخفاقات في كل مرحلة من مراحل العمل : إجراءات تقصي انتقائية (لم يتم التحقيق في حالات الإصابة على الإطلاق) والإجراءات المطولة (تم استكمال التحقيق في 96 حالة من أصل 231) من قبل جهاز استقصاء الأحداث، البطء في اتخاذ قرار فتح التحقيق من قبل النيابة العسكرية (تم إرسال 56 حادثة من أصل 96 للنيابة العامة للنظر فيها): التقليل من التحقيقات الجنائية (14 في أعقاب عمل جهاز استقصاء الأحداث و 3 تحقيقات إضافية بدون تقصي، والنتيجة: 17 تحقيقًا أسفروا عن لائحة اتهام واحدة) ; وفي نهاية هذه السلسلة – فشل النيابة العسكرية في اتهام جندي مشتبه بارتكابه مخالفة أسفرت عن القتل، وإدانته بمخالفة مخففة من النوع التأديبي.

الدمج بين أوامر إطلاق النار المتساهلة ضد المتظاهرين العزل ونظام  تطبيق القانون الذي يفعل كل ما بوسعه لمنع إجراء تحقيق حقيقي وفعال في قتل المتظاهرين هو مزيج قاتل. وهذا يعني الخسارة المؤسفة وغير الضرورية للعديد من الأرواح البشرية، وانعدام المسؤولية بعد إلحاق الأذى بالأبرياء وترك سكان قطاع غزة بلا حماية في مواجهة خطر إزهاق حياتهم.