“لا توجد ديمقراطيّة من دون سوق أفكار وآراء حرّ ونابض بالحياة “
تحتوي مناطق الضفة الغربية على الكثير من الآثار والبقايا الأثريّة- ذكرى عن التاريخ الغني والمتنوع الذي شهدته هذه المناطق. فور انتهاء احتلال الضفة عام 1967، أبدت إسرائيل اهتمامها بالمواقع الأثريّة هناك. المسؤول عن مجال الآثار في الإدارة المدنيّة، ويعيّن من قِبَل الحاكم العسكريّ، هو ضابط أركان الآثار.
المعلومات التي يقوم ضابط أركان الآثار بنشرها حول عمله وعمل وحدته هي معلومات سطحيّة وناقصة مقارنة بما هو معهود وسائد في عالم الآثار، وحتى مقارنة بمنشورات سلطة الآثار في إسرائيل. تعكس سياسة الإخفاء التي يتّبعها ضابط أركان الآثار التوجّه الاستيلائيّ لإسرائيل على الكنوز الأثريّة للضفة الغربيّة. ينافي هذا التوجّه القانون الدوليّ الذي يرى بالمواقع الأثريّة وبالآثار ممتلكات ثقافيّة تتبع للمنطقة الواقعة تحت الاحتلال.
الآثار هي مورد عموميّ محدود وذو خصوصيّة. إدارة هذا المورد بالخفاء، عبر اختيار الإخفاء بدل الكشف والشفافيّة، تمنع عن الجمهور معلومات هامّة ومثيرة، وتمنع كذلك نقدًا جماهيريًا ومراقبة على أنشطة ضابط أركان الآثار. بالإضافة إلى ذلك، هذه المعلومات هي نتاج أنشطة تُنّفذ في محيط أكاديميّ، حيث النشر ومشاركة المعلومات أمور جوهريّة وتقع في صلب العمل الأكاديميّ.
في محاولة منهما للحصول على معلومة غير منشورة من قِبَل ضابط أركان الآثار، توجّهت منظمتَي يش دين وعيمق شاڤيه، في العام 2013، بطلبين من أجل الحصول على معلومات في مواضيع مختلفة متعلّقة بالسياسات الأثريّة لإسرائيل في الضفة الغربيّة. تم تقديم الطلبين بحسب قانون حرية المعلومات الذي يلزم السلطات الإسرائيليّة بتوفير معلومات خلال مهلة زمنيّة يحدّدها القانون، وبحسب التقييدات المفصّلة بالقانون (مثلا، إن كان توفير المعلومات يمسّ بأمن الدولة). المعلومات التي طُلبت تتعلّق بالإجراءات، والأوامر والبروتوكولات التي تنظّم موضوع الآثار في الضفة الغربيّة، والمعلومات احول حفريات ومواقع أثريّة، مكان تخزين المكتشفات التي تمّ اكتشافها في الحرفيات، مكتشفات تمّت إعارتها لأطراف ثالثة واتفاقيات لتشغيل مواقع أثريّة.
طيلة عام، لم توفّر الإدارة المدينة المعلومات المطلوبة، رغم التوجهات المتكرّرة من قبلنا، بما في ذلك رسائل الشكوى التي أرسلت لضابط توجهات الجمهور في الخدمة المدنيّة، ولرئيس الإدارة المدنيّة، وللوحدة الحكوميّة لحرية المعلومات في وزارة القضاء، على أمل تساعد في الحصول على المعلومات. لم تدّعي الإدارة المدنيّة، حتى تلك المرحلة، أنّ هناك أي مانع من توفير المعلومات، لكنها تجاهلت وتباطأت في إرسالها، متجاوزة المهل الزمنيّة التي يسمح بها القانون.
في نهاية الأمر، وبما أنّ المعلومات لم تتوفر، قدّمنا التماسًا بتاريخ 20.7.2014 للمحكمة المركزيّة في القدس، في إطار عملها كمحكمة للشؤون الإداريّة، ضد ضابط أركان الآثار والإدارة المدنيّة. استمرت المداولات وقتًا طويلًا، واضطررنا خلالها لتقليص حجم المعلومات المطلوبة، لكننا حصلنا على معلومات عدّة.
مع ذلك، أعلمتنا الإدارة المدنيّة أنّها ترفض أن توفّر لنا المعلومات التي طلبناها حول أسماء الباحثين الذين حصلوا على رخصة حفريات في الضفة الغربيّة بسبب الخشية من المقاطعة الأكاديميّة لهؤلاء الباحثين وللمؤسسات الأكاديميّة التي ينتمون إليها. كذلك، رفضت أن توفّر لنا قائمة المكتشفات الأثريّة المعارة للمتاحف، وللمعارض والجهات الأخرى في إسرائيل والعالم، والمعلومات حول مكان تخزين المكتشفات الأثريّة التي اكتشفت في الضفة الغربيّة، بسبب الخشية من الضرر الذي قد يصيب العلاقات الخارجيّة لإسرائيل نتيجة ذلك.
خلال المداولات في الالتماس سمع القاضي ادعاءات الدولة حول الخشية من المقاطعة وإيذاء العلاقات الخارجيّة لإسرائيل من طرف واحد، ولم نُمنح فرصة الإطلاع على الأساس الذي بنت عليه الدولة هذه الادعاءات، ولا فرصة الردّ على هذه الادعاءات. في تشرين الثاني 2016 رفضت المحكمة المركزيّة الالتماس، وقبلت ادعاءات الإدارة المدنيّة.
في كانون الأول 2016 تقدّمنا بالتماس لمحكمة العدل العليا، طالبين منها أن تقلب قرار المحكمة المركزيّة، وأن تفرض على الإدارة المدنيّة الكشف عن المعلومات. وفي هذا الالتماس أيضًا، جرى التداول بحضور طرف واحد.
من بين ادعاءات الالتماس، طرحنا ادعاءً مفاده أن معلومات شبيهة في مجال الآثار في إسرائيل منشورة من قِبَل سلطة الآثار، بمبادرتها على موقعها الإلكترونيّ وهي متاحة للجمهور. كما ادّعَينا أن سياسات الإخفاء تناقض المبدأ الأكاديميّ الذي تُعطى على أساسه رخص الحفريات. في المحصلة، على المقال الأكاديميّ أن يُنشر- آجلا أم عاجلاً – وليس أن يبقى في الخفاء.
في 16.5.2019 قررت محكمة العدل العليا رفض الالتماس. قضاة الأغلبية (نوعم سولبرغ ويوسف الرون) قبلوا ادعاءات الدولة في أنّ نشر المعلومات قد يضرّ بالعلاقات الخارجيّة لإسرائيل ويشجّع المقاطعة الأكاديميّة. في المقابل، رأى رأي الأقليّة (القاضية عنات بارون) أنّه كان على المحكمة قبول الالتماس. شرحت بارون موقفها من القرار بأنّ الخشية من النقد الجماهيريّ ليست سببًا يبرّر إخفاء المعلومات، وأنّ هذا الإخفاء يناقض مبادئ الديمقراطيّة:
“…عدم الكشف عن المعلومات المطلوبة في هذا الإجراء، بسبب الخشية من المقاطعة، هو بذاته إسكات للخطاب الأكاديميّ-الأثريّ حول الحفريات في يهودا والسامرة، وهو يضرّ بالبحث وبالحرية الأكاديميّة، بدل الدفاع عنها […] أكثر من ذلك، في عدم الكشف هناك إسكات للنقاش الجماهيريّ حول شرعية الحفريات الأثريّة في يهودا والسامرة، وهي طبعًا مسألة مثيرة للجدل. النقاش العام حول هذا السؤال يمكنه أن يجلب نقدًا على الذين يقومون بالحفر، وقد يجلب حتى مقاطعة كما يدّعي الطرف المجيب، لكن إسكات النقاش من خلال إخفاء المعلومات لا تزيل هذه المخاوف. لا توجد ديمقراطيّة من دون سوق أفكار وآراء حرّ ونابض بالحياة، والمنع المسبق للنقاش الجماهيريّ بسبب الخشية من النقد، وحتى من المقاطعة، إنّما يشكّل خطرًا حقيقيًا على قيم الديمقراطية التي تتبناها دولة إسرائيل. الخشية من التدهور في هذا المنحدر يأخذ بعدًا ملموسًا”.
كما كتبت بارون أنّه لا يمكن استخدام التحفظّات حول حرية المعلومات لإخفاء سلوك غير سليم من قبل السلطات:
“[…] لا يمكن استخدام التحفظّات على حرية المعلومات المذكور في بند 9 (أ) من القانون، للتغطية على سلوك غير سليم لإحدى سلطات الدولة، بهذا الموضوع أو بموضوع آخر […] كلما كان تعامل الطرف المجيب مع المكتشفات الأثريّة، التي يعود مصدرها للضفة الغربية، تعاملاً قانونيًا، كلما ساهم هذا الأمر في التخفيف الفعلي من الخشية بأنّ تضر المعلومات المطلوبة (التي سبق وأشرت إلى أنّها معلومات عامّة) بدولة إسرائيل”.
في نهاية الأمر، يملك ضابط أركان الآثار صلاحيات واسعة تمكنّه من التأثير على القصة الأثريّة-التاريخيّة للمنطقة المحتلة وتصميمها. يعبّر النشاط الإسرائيليّ في مجال الآثار بالضفة الغربيّة عن مفهوم منافٍ للقانون الدوليّ، حيث تستولي على كنوز الثقافيّة وتستحوذ عليها وتحرم السكان الفلسطينيّين منها. يبدو أنّ إخفاء المعلومات حول هذه السياسات يهدف إلى إخفائها عن الجمهور وإسكات النقد الجماهيريّ عليها.
لمعلومات أخرى اقرأوا التقرير: الاستيلاء على الماضي- استعمال إسرائيل للمواقع والمكتشفات الأثريّة في الضفة الغربيّة