تاريخ التقديم: آذار 2019
توجّهتْ يِيش دِين وجمعية حقوق المواطن إلى محكمة العدل العليا، في انعقادها على هيئة محكمة استئناف، طالبتَين الانضمام بصفة أصدقاء للمحكمة في الاستئناف المقدَّم على حُكم المحكمة المركزية في تل أبيب بشأن البؤرة الاستيطانية غير المرخَّصة مِتْسپِيه كْرَمِيم. (قَدّم الاستئنافَ ثلاثةٌ من أصحاب الأراضي بواسطة المحامي حسام يونس. يِيش دِين وجمعية حقوق المواطن ليستا طرفًا في الاستئناف أو في الإجراءات القانونية التي سبقته).
أقيمت البؤرة الاستيطانية مِتْسپِيه كْرَمِيم على أراضٍ فلسطينية بملكيةٍ خاصةٍ منظَّمةٍ زُعِم بأن الجيش استولى عليها بأمر عسكري، أما في حقيقة الأمر فالبؤرة المذكورة تقع خارج المنطقة المستولَى عليها. في آب 2018 أصدرت المحكمة المركزية حكما قضائيًّا جاء فيه بأنه على الرغم من وقوع البؤرة على أراضٍ لم يتضمّنها أمرُ الاستيلاء الصادر في السبعينات لصالح المنطقة التي أقيمت عليها مستوطنة كُوخاڤ هَشاحَر، فإنه يجوز إعطاء الصفة الشرعية للصفقة التي رَصدتْ الإدارةُ المدنية (القيِّمة على الممتلكات الحكومية المهجورة) في إطارها الأراضيَ التي أقيمت عليها البؤرة لصالح وحدة الاستيطان في الهستدروت الصهيونية، وذلك بالاستناد إلى مبادئ “السوق المفتوحة”.
“السوق المفتوحة” هي إجراء قانوني (معتمَد في إسرائيل أيضا) يرمي إلى توفير الحماية لمن اشترى أرضا استنادًا إلى سِجِلات طابو وقع فيها خطأ، أو في حالة بَيْع عقار على يدِ غيرِ مالكه. يقول أمرٌ بشأن الممتلكات الحكومية بأن السوق المفتوحة تنطبق على مَن أجرى صفقات بحسن نية مع القيِّم على الممتلكات الحكومية. يعني تطبيقُ “السوق المفتوحة” في حالتنا هذه مصادرةَ حق المالكين الفلسطينيين على الأرض ونقلَها إلى مستوطني البؤرة غير المرخَّصة مِتْسپِيه كْرَمِيم.
طبقًا لحكم المحكمة، فإنه بالرغم من أن الأراضي التي أقيمَت البؤرة عليها لم تكُن قَطُّ أراضيَ دولة (مُلْكًا حكوميًّا)، بل أراضيَ خاصةً اعتُقِد – خطأً – بأنها أراضٍ استولِي عليها لفترة محدودة لأغراض أمنية عاجلة وضرورية، فإن السلطات الإسرائيلية تعاملت مع الأراضي كأنها أراضٍ تابعة للدولة، فرصدتها لسكان مِتْسپِيه كْرَمِيم. وقد قضت المحكمة بأن أصحاب الأراضي الفلسطينيين لا يملكون الحق في اللجوء إلى الإجراءات القضائية لإخراج الغزاة من أراضيهم.
يتناول الحكمُ القضائي الوضعيةَ القانونية للأراضي الواقعة في الضفة الغربية الخاضعة للاحتلال. مع ذلك، فقد تجنّبت المحكمة التطرّقَ إلى الوضعية القانونية الخاصة للمنطقة ولحقوق أصحاب الأراضي من جهة، وإلى الواجبات التي تتحمّلها السلطات الإسرائيلية من جهة أخرى. في واقع الأمر، لا يعرِّج الحكمُ ولو بكلمة واحدة (!) على أحكام القانون الدولي الإنساني السارية على المنطقة؛ بل ويتجاهل الحكمَ المتشعِّبَ الصادر عن المحكمة العليا الذي رسم الحدَّ الفاصل بين المحظور والمسموح في قضية الأراضي الخاصة الواقعة في أرض محتلة.
طلبُ الانضمام بصفة أصدقاء للمحكمة في إجراء الاستئناف نابعٌ من أهمية الحكم الصادر عن المحكمة المركزية، الذي قضى بأنه يجوز المسّ بملكية الفلسطينيين الخاصة، المعتبَرين سكانًا محميّين في أرض محتلة، حتى إن لم يكن المسّ لأغراض أمنية ضرورية صِرْف. يتعارض هذا الحكم مع أحكام القانون الدولي وأحكام القانون المحلي وحكْمٍ سابق صادر عن المحكمة العليا. للحكم المذكور تداعياتٌ بعيدة المدى فيما يتعلق بتطبيق مبدأ “السوق المفتوحة”، فهو يتيح بقرار ذاتي وعلى نحو حثيث تطبيقَ هذا المبدأ على آلاف الحالات الأخرى.
نظرًا للخبرة التي تملكها كلٌّ من يِيش دِين وجمعية حقوق المواطن، فقد طلبت المنظمتان من المحكمة العليا الانضمام إلى الاستئناف بصفة أصدقاء للمحكمة لتمثيل المصلحة العامة المتمثِّلة في الدفاع عن حقوق الملكية في ظروف الاحتلال. وقد جاء في بيان استشاري قُدِّم إلى المحكمة أن الحكم الصادر عن المحكمة المركزية يُفضي إلى وضعٍ ينشأ فيه الشيء من لا شيء، على نحو يتناقض والصلاحيات المنصوص عليها في القانون، ما يشكّل انحرافًا جديدًا عن حظر المسّ بممتلكات السكان المحميّين في الأراضي المحتلة، لكونه يُجيز المسَّ بها في ظروف لا تستند إلى حاجة أمنية ماسّة.
يشير البيان المذكور كذلك إلى أنه لا يمكن قبول التوجّه الذي يرى أن حقوقَ ملكيةٍ مزعومة لإسرائيليين على أرض معيّنة تتمتع بالحماية بموجب القانون الأساس، فيما يرى أن حقوق الملكية للفلسطينيين على الأرض عينها غير محميّة. هذا الموقف يُنشئ نظامَ فصلٍ عنصريٍّ قانونيًّا.
بعد نحو عقدٍ من الإجراءات القانونية، أصدرت المحكمة العليا حكمًا قضائيًا بخصوص البؤرة الاستيطانية ماتسبيه كراميم، التي أقيمت على أراضي قريتي دير جرير وكفر مالك. الحكم القضائي الصادر بأغلبية الآراء عن رئيسة المحكمة العليا إستر حيوت والنائب حنان ملتسر (خلافًا لرأي القاضي نيل هندل) قَبَل الالتماس والاستئناف اللذين قدّما للمحكمة العليا من قبل أصحاب الأراضي الفلسطينيين، بالتعاون مع منظمة ييش دين وجمعية حقوق المواطنين، كأصدقاء للمحكمة.
الحكم القضائي الصادر والذي ينقض قرار المحكمة المركزية في تل-أبيب، يقضي بإخلاء البؤرة الاستيطانية بأكملها من الأراضي الخاصة خلال ثلاث سنوات. ولكن إخلاء البؤرة الاستيطانية اشتُرط بـإيجاد “حل بديل ملائم عن طريق تخصيص أرض بديلة على أراضي الدولة، وإقامة مبان بديلة، أو نقل المباني القائمة إلى أرض بديلة”. بكلمات أخرى، فإنّ إخلاء البؤرة الاستيطانية الحالية من الأراضي الخاصة مشروط بإقامة بلدة في منطقة أخرى، وبناء على تجارب ماضية، قد يؤدي ذلك بالدولة إلى السعي لإقامة مستوطنة جديدة لسكان ماتسبيه كراميم.
مع ذلك، فإنّ أهمية الحكم القضائي تكمن في التركيز على القانون الدولي الذي يسري على المناطق الخاضعة للسيطرة العسكرية، أي الواقعة تحت الاحتلال. على سبيل المثال، ينص الحكم القضائي على أنّه يجب “تحديد سريان مبدأ “السوق العامة” وعدم توسيعه، إذ أنّ تطبيق المبدأ في سياق البؤرة الاستيطانية ماتسبيه كراميم يناقض الواجب المفروض على القائد العسكري في إطار القانون الدولي الإنساني “بحماية ممتلكات سكان المنطقة”. ففي إطار العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في المناطق المحتلة، فإنّ الإسرائيليين هم المستفيدون الوحيدون من مبدأ “السوق العامة” على حساب حقوق الملكية للمواطنين الفلسطينيين في المكان. ينبع ذلك من حقيقة أنّ أراضي الدولة مخصصة بشكل حصري تقريبًا للإسرائيليين، مع أن ملكية معظم الأراضي الخاصة هي للفلسطينيين. بالتالي، فإنّ المستفيدين الوحيدين من تطبيق “السوق العامة” هم الإسرائيليون، مع انتهاك حقوق الفلسطينيين.
يبدو أنّ المحكمة العليا قبلت موقف ييش دين وجمعية حقوق المواطن بخصوص الواجبات التي تسري على السلطات الإسرائيلية، خاصة واجب حماية السكان في المنطقة المختلفة. بالرغم من محاولات الدولة استغلال مبدأ “السوق العام” لتسوية البؤر الاستيطانية بطرق تتجاوز قانون “التسوية” الملغي، قضت المحكمة أنّه خلافًا للقاعدة الأساسية لمبدأ “السوق العامة”، “فإنّ المسؤول عن الممتلكات الحكومية في منطقة يهودا والسامرة… لم يجتز اختبار حسن النية، لأنه أغفل عن رؤية مؤشرات الخطر العديدة التي كانت بارزة للعيان على مدار سنوات طويلة”. جاء أيضًا في الحكم القضائي أنّ الأراضي التي استولي عليها لأغراض عسكرية ليست أرضًا عامة (أرض دولة)، ولذلك، فإنّ المسؤول عن الممتلكات الحكومية والمتروكة غير مخوّل بتخصيصها لبناء المستوطنات.
هذا الحكم القضائي النادر يؤكد أنّ نهب الأراضي في مختلف أنحاء الضفة الغربية لا يحدث ضمن صراع بين جيران متساوين في الحقوق، لذلك، لا يوجد ما يدعو لاستخدام تفسيرات مرنة وديناميكية للقانون والحقائق.
بعد حوالي أسبوعين من صدور قرار المحكمة العليا بإخلاء مِتْسپِيه كْرَمِيم، قدّمت وزارة الدفاع، بناء على طلب المستشار القضائيّ للحكومة أفيحاي ماندلبليت، طلبًا لعقد جلسة استماع أخرى في المحكمة العليا للنظر في قضايا أساسيّة قد تمّ تناولها في قرار المحكمة. في طلب عقد جلسة إضافيّة، يتعيّن على المحكمة أن تعرّف “حسن النية” المطلوب في الظروف المذكورة، وما إذا كان بالإمكان اعتبار المنطقة التي تمّت مصادرتها عسكريًّا كممتلكات حكوميّة. في يوم 24.11.2020، سمح القاضي يتسحاق عميت بعقد جلسة إضافيّة في قضية مِتْسپِيه كْرَمِيم من خلال لجنة موسّعة والتي ستتمحور حول المعايير القانونية المطلوبة لفحص مبدأ حسن النية بموجب المادّة 5 من الأمر بشأن أملاك الحكومة، تطبيق هذا البند وكذلك الشروط الأخرى للمادة في الوضع الراهن.
في تاريخ 22.06.21، قدّمت كلّ من ييش دين وجمعية حقوق المواطن طلبًا آخر للتدخّل كأصدقاء للمحكمة في الجلسة التي ستُعقد قريبًا. يزعم الطلب أن السلطات تتحاشى باستمرار الاعتراف بالمكانة الخاصّة للأراضي المحتلّة والحقوق الممنوحة لأصحاب الأراضي الفلسطينيين بموجب القانون. وينعكس هذا في تجاهل سلطات الدولة للقانون الدوليّ، سواء في الموقف الذي اتخذوه أمام المحكمة أو في الطريقة التي تسير بها الأمور على أرض الواقع.
ذُكر في الطلب أيضًا أنّ تطبيق معايير “السوق المفتوحة” واللجوء إلى مبادئ قانونية ليست من ضمن القوانين المتّبعة في الضفّة الغربية وارد فقط في حالة كانت تتماشى مع مبادئ القانون الدوليّ. وفي قضيّة مِتْسپِيه كْرَمِيم لم تتوافق طريقة تنفيذ البند مع هذه المبادئ. لذلك، إذا تمّت المصادقة على استخدام المادّة 5 كأحد معايير”السوق المفتوحة” ، فيجب التحقّق من حسن نوايا المفوّض على الممتلكات الحكوميّة بموضوعيّة ودقّة قدر الإمكان.
يسعى موقف الدولة إلى خلق استثناء، بصورة غير متوقّعة، لقاعدة تحظر إلحاق الضرر بالممتلكات الخاصة في الأراضي المحتلة من قبل قوّة الاحتلال، علاوة على الاستثناءات القائمة بموجب القانون اليوم. هذا الموقف، الذي يهدف إلى تسهيل عدد من المعايير مع السلطات المتعلّقة ببنود المادّة 5، وفي الواقع “دعم” أفعالها، قد يؤدّي إلى إلحاق ضرر جسيم بممتلكات السكان المحميين، وانتهاك الواجبات القائمة تجاهها. “إن المعايير التي تسعى إليها السلطات تسعى إلى إرساء معيار الإهمال كمعيار إداري بديهيّ، بطريقة من شأنها أن تضرّ بشكل منهجيّ وشامل بممتلكات السكان المحميين، عندما يكون الهدف من هذا الضرر هو إفادة السكّان الإسرائيليين حصرًا” جاء في الطلب.
في يوم 27/7/2022 أصدرت المحكمة العليا الإسرائيليّة بهيئة موسّعة قرارًا بتغيير قرار الحكم الذي صدر بإخلاء بؤرة متسـﭙيه كراميم، وقضوا بأنّه بالإمكان تأهيل وشرعنة البؤرة الاستيطانيّة عبر تطبيق المادّة 5 من الأمر الخاصّ بالممتلكات الحكوميّة (تعليمات السّوق). وفي واقع الأمر، يُمهّد قرار العليا الطريق لإجراء شرعنة جارفة لآلاف المباني التي شُيّدتْ خلافًا للقانون في الضفّة الغربيّة، ولإنشاء منظومة تعمل على انتزاع حقوق الفلسطينيّين على أراضيهم ونقلها إلى المستوطنين الذين اقتحموها خلافًا للقانون. وتُستغلّ “تعليمات السوق” في هذا السياق بما يُشبه أداة التفافيّة على قانون التسوية الذي شطبته المحكمة العُليا، والذي يُشكّل تهديدًا حقيقيًّا على مصير الكثير من الأراضي الإضافيّة في الضفّة الغربيّة، التي شُيدّت عليها المباني والبؤر الاستيطانيّة خلافًا للقانون الإسرائيليّ.
وتجاهل قرار الحُكم هذا تعليمات القانون الدّوليّ السارية على الأراضي المحتلّة، وعلى الأخصّ تلك المتعلقّة بمسؤوليّة القوّة الاحتلاليّة بحماية الأراضي الخاصّة التي يملكها السكّان الفلسطينيّون، والذين يُعتبرون بدورهم سكانًا محميّين. وقد فضّل رأي الأغلبيّة لدى قُضاة العليا، وبما لا يقبل التأويل، مصالح مستوطني متسـﭙيه كراميم -التابعين لجمهور يتمتّع أصلًا بفائض حقوق وامتيازات في أرجاء الضفّة- بدلًا من حماية حقوق أصحاب الأراضي الفلسطينيّين الذين ينتمون إلى جمهور يعاني التمييز المُمنهَج وإلغاء حقوقه السياسيّة.