تستخدم إسرائيل الإعلانَ عن أراضٍ في الضفّة الغربيّة أراضيَ عامّة (“أراضي دولة”)، كأداة هامّة في تثبيت وتدعيم المشروع الاستيطانيّ في الأراضي المُحتلّة. يستعرض هذا التقرير ويُحلّل فرعًا مُعيّنًا في سياسة الإعلانات الإسرائيليّة عن الأراضي، وهو نهب الأراضي الفلسطينيّة عبر الإعلان عنها “أراضي دولة”، في الأماكن التي توقّفت فيها مسارات تسوية الحقوق على الأراضي مع احتلال الضفّة الغربيّة.

يُشكّل مسار تسوية الحقوق على الأراضي مسارًا مُركّبًا ومُعقّدًا ومنهجيًّا وتكثيفيًّا، تُسيّره السلطة الحاكمة، التي تسعى لتشخيص كلّ المُلكيّات القائمة على الأراضي في المنطقة الجغرافيّة التابعة لها، ومن ثمّ تسويتها وتدوينها. في عام 1928 بدأت سلطات الانتداب البريطانيّ لأوّل مرّة، وبشكل منهجيّ، بتسجيل الحقوق على الأراضي الواقعة في أرجاء فلسطين التي كانت خاضعة لسيطرتها. وتواصل مسار تسوية وتنظيم الأراضي في الضفّة الغربيّة تحت حُكم المملكة الأردنيّة أيضًا، فيما جرى حتى عام 1967 استكمال تسوية نحو ثُلث أراضي الضفّة. وبعد احتلال إسرائيل للمنطقة، أصدر القائد العسكريّ أمرًا بتجميد كلّ مسارات تسوية الأراضي.

رغم أنّ مسار التسوية لم يتجدّد، إلّا أنّ الجيش الإسرائيليّ بدأ مطلع سنوات الثمانين، وبوساطة الإدارة المدنيّة، باستخدام قوانين الأراضي العثمانيّة وبالإعلان عن مئات آلاف الدونمات في الضفّة الغربيّة “أراضي دولة”. ومن المفترض بهذه الأراضي التي يُديرها الجيش أن تُستخدم لاحتياجات السكّان المحليّين الذين يعيشون تحت سلطة الاحتلال، مثل تشجيع إقامة البلدات أو البُنى التحتيّة اللازمة. ومع ذلك، خصّصت إسرائيل الغالبيّة السّاحقة من هذه الأراضي لصالح توسيع المستوطنات الإسرائيليّة في الأراضي المُحتلّة خلافًا لأحكام القانون الدَّوليّ. وتُستخدم هذه الطريقة في العقد الأخير، كذلك، بغية شرعنة البناء الإسرائيليّ غير القانونيّ على الأراضي الفلسطينيّة بأثر رجعيّ.

قبل حزيران/ يونيو 1967، جرت في أراضي ما لا يقلّ عن 16 بلدة وقرية فلسطينيّة في الضفة الغربيّة مسارات تسوية حقوق على الأراضي، وصلت إلى مرحلة متقدّمة، لكنّها لم تُستَكمَل بسبب وقف إسرائيل لهذا المسار. بوسعنا التخمين بمستوى عالٍ من اليقين أنّه لولا قيام إسرائيل بتجميد مسار التسوية، فإنّ جزءًا كبيرًا من أراضي هذه البلدات كان سيُسجّل أراضيَ خاصّة بملكية فلسطينيّين، لا كأراضٍ بملكيّة الحاكم. ورغم ذلك أعلنت إسرائيل عن “أراضي دولة” في منطقة لا تقلّ مساحتها عن 41,000 دونم من ضمن أراضٍ بدأ مسار تسويتها. وتؤدّي هذه السياسة الإسرائيليّة إلى إبطال مسارات التسوية في الأراضي التي اُعترف بحقّ الفلسطينيّين عليها ظاهريًّا، وهي تمنع كذلك استكمال المسارات وتسجيل مطالبات أصحاب الأراضي الفلسطينيّين في المستقبل.

تستند السياسة الإسرائيليّة بالإعلان عن “أراضي دولة” في الأماكن التي توقّف فيها مسار التسوية، إلى استخدام انتقائيّ للأجهزة القانونيّة التي تُنظّم منظومة الأراضي في الضفّة الغربيّة، من خلال انتهاك أحكام القانون الدّوليّ السّارية عليها كونها القوّة الاحتلاليّة في الضفّة الغربيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ هذا الإعلان يخالف القانون المحليّ السّاري في الضفة، وحتّى أنّه يخالف الأمر الذي أصدره ووقّع عليه القائد العسكريّ الإسرائيليّ بنفسه. وإلى جانب هذا كلّه، فإنّ هذه السياسة تنتهك حقّ الملكيّة المكفول للفلسطينيّين الذين شاركوا في مسار التسوية، وهي تسمح بتجريد الأفراد والجماعات الفلسطينيّة من أراضيهم.

تسيطر إسرائيل على سجلّ الأراضي في الضفّة الغربيّة منذ أكثر من 53 عامًا، وهي في واقع الأمر تؤدّي دورًا مزدوجًا؛ فهي من جهة لا تسمح للفلسطينيّين الذين بدؤوا مسارات تسجيل أراضيهم باستكمال تسجيل حقوق ملكيّتهم عليها، وتُعلن عن هذه الأراضي من الجهة الأخرى “أراضي دولة”، وتنقلها لاستخدام مشروع الاستيطان الاسرائيليّ الحصريّ في الضفّة الغربيّة.

في يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، رفضت المحكمة العُليا التماسًا قدّمه أصحاب أراضٍ فلسطينيّون من كفر عقب، بمساعدة ييش دين. تطرّق الالتماس إلى وضعيّة الأراضي التي خضعت لمسار تسوية لم يُستكمل، وإلى صلاحيّة إسرائيل بالإعلان عنها “أراضي دولة”. قَبلَ قرار الحكم بموقف الدولة، وهو عمليًّا يُشرعِن السياسة الإسرائيليّة الغاصبة التي تنتهك حقّ المُلكيّة لدى الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، والتي تخالف أحكام القانون الدوليّ. زدْ على ذلك أنّ قرار الحُكم يسمح بمواصلة المسّ بأفراد وجماعات فلسطينيّة أخرى شاركت في مسارات تسوية لم تُستكمَل. وفي أعقاب ردّ الالتماس قدّم أصحاب الأراضي ومعهم رئيس مجلس كفر عقب طلبًا لإجراء مداولة أخرى بتشكيلة قضاة موسّعة. وما زال هذا الطلب عالقًا قيد الفحص.

يستعرض هذا التقرير سياسة النهب التي لا تأتي من فراغ؛ فهي تُشكّل جزءًا لا ينفصل عن الجهد الإسرائيليّ الواسع النطاق لتعزيز السيطرة الإسرائيليّة على الأراضي في الضفّة الغربيّة، ولشرعَنة كلّ عمليّات البناء الإسرائيليّ غير القانونيّ في الأراضي المُحتلّة بأثر رجعيّ.